و من خطبة له عليه السلام و هى الخامسة و الثمانون من المختار فى باب الخطب
قد علم السّرائر، و خبر الضّمائر، له الإحاطة بكلّ شي ء، و الغلبة لكلّ شي ء، و القوّة على كلّ شي ء
اللغة
(السّرّ و السّريرة) ما يكتم و جمع الأوّل أسرار و الثاني السّراير (خبرت) الشي ء من باب قتل علمته و امتحنته، و في القاموس خبر ككرم و في بعض النسخ خبر الضّماير بكسر الباء، قال الشارح المعتزلي: خبر الضمايرا متحنها و ابتلاها و من رواه بكسر الباء أراد علم انتهى فافهم.
و (ضمير) الانسان قلبه و باطنه كما فى المصباح و الجمع الضّماير، و فى القاموس الضمير السّر و داخل الخاطر، و على ذلك فهو إمّا حقيقة في الأوّل مجاز في الثاني أو بالعكس بعلاقة الحال و المحل
المعنى
اعلم أنّ هذه الخطبة مسوقة للتذكير و الموعظة، و المقصود بها جذب الخلق إلى طرف الحقّ و صدّرها بالاشارة إلى بعض أوصافه سبحانه لتكون مقدّمة للمقصد فقال عليه السّلام (قد علم السّرائر) و هو كقوله سبحانه: وَ إِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَ أَخْفى و قوله تعالى: يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَ جَهْرَكُمْ.
و قد مضى القول في ذلك في شرح الخطبة التاسعة و الأربعين، و تمام القول في علمه تعالى بالكليّات و الجزئيات و السرّ و الاعلان في تنبيهات الفصل السّابع من فصول الخطبة الاولى و نقول هنا مضافا إلى ما سبق: انّ عموم علمه سبحانه مما اتّفق عليه المتكلّمون و الحكماء.
أمّا المتكلّمون فظاهر لأنّهم تابعون للشّرع و الشرع قد ورد بذلك حسبما عرفت مفصلا فى شرح الخطبتين المذكورتين.
و أمّا الحكماء فملخّص كلامهم على ما في شرح البحراني أنّه يعلم ذاته بذاته و يتّحد هناك المدرك و المدرّك و الادراك و لا يتعدّد إلا بحسب الاعتبارات العقلية التي تحدثها العقول البشرية، و أمّا علمه بمعلولاته القريبة منه فيكون بأعيان ذواتها، و يتّحد هناك المدرك و الادراك و لا يتعدّدان إلّا بالاعتبار العقلي و يعايرهما المدرك و أمّا بمعلولاته البعيدة كالمادّيات و المعدومات التي من شأنها إمكان أن توجد في وقت أو تتعلّق بموجود فيكون بارتسام صورها المعقولة من المعلولات القريبة التي هي المدركات لها أوّلا و بالذّات و كذلك ينتهى إلى ادراك المحسوسات بارتسامها في آلات مدركاتها.
قالوا: و ذلك لأنّ الموجود في الحاضر حاضر و المدرك للحاضر مدرك لما يحضر معه فاذا لا يعزب عن علمه مثقال ذرّة في السّموات و لا في الأرض و لا أصغر من ذلك و لا أكبر، لكون ذوات معلولاته القريبة مرتسمة بجميع الصور، و هي التي يعبّر عنها تارة بالكتاب المبين، و تارة باللّوح المحفوظ، و تسمّى عندهم عقولا فعّالة.
هذا ما حقّقه محقّقو الحكماء في كيفيّة علمه سبحانه، إلّا أنّ الكلام بعد في صحّة القول بالارتسام، و قد مضى ما فيها في شرح الفصل السّابع من الخطبة الاولى، و كيف كان فلا ريب في عموم علمه و ان لم نعلم كيفيّة ذلك و لم نعرفه بكنهه (و خبر الضّمائر) اى امتحن القلوب بالخير و الشرّ أو أنّه عالم بالقلوب و بما فيها من الأسرار و خبير بما في الصّدور على الاختلاف المتقدّم في بيان اللّغة قال سبحانه: أَ فَلا يَعْلَمُ إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ وَ حُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ.
قال بعض المحقّقين: الخبير هو الّذي لا تعزب عنه الأخبار الباطنة فلا يجري في الملك و الملكوت شي ء و لا تتحرّك ذرّة و لا تسكن و لا تضطرب نفس و لا تطمئنّ إلّا و يكون عنده خبرة، و هو بمعنى العليم لكنّ العلم إذا اضيف إلى الخفايا الباطنة سمّى خبرة و سمّى صاحبها خبيرا فهو أخصّ من مطلق العلم (له الاحاطة بكلّ شي ء) أى علما و حفظا، أو استيلاء و قدرة كما قال تعالى: أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ مُحِيطٌ.
و قد مضى تفسيرها في شرح الفصل السابع من الخطبة الأولى (و الغلبة لكلّ شي ء) كما قال سبحانه: وَ اللَّهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ.
و قد مرّ بعض القول في غالبيّته في شرح الخطبة الرابعة و السّتين و أقول هنا إنّ معنى غلبته بكلّ شي ء يعود إلى تمام قدرته عليه و كونه قاهرا على جميع الأشياء، و ليس قهره تعالى و غلبته على نحو ما يتصوّر فينا، بل على معنى آخر.
كما أشار إليه أبو الحسن الرّضا عليه السّلام في حديث الكافي بقوله: و أمّا القاهر فليس على معنى نصب و علاج و احتيال و مداراة و مكر كما يقهر العباد بعضهم بعضا و المقهور منهم يعود قاهرا و القاهر يعود مقهورا، و لكن ذلك من اللّه تعالى على أنّ جميع ما خلق ملبّس به الذلّ لفاعله و قلّة الامتناع لما أراد به لم يخرج منه طرفة عين أن يقول له كن فيكون و القاهر منّا على ما ذكرت و وصفت.
توضيحه أنّ اللّه سبحانه لا يحتاج في قهره و غلبته إلى عمل و آلة و مدافعة و تعب و خديعة و مخالطة و حيلة كما يحتاج العباد في قهر بعضهم بعضا إلى ذلك، إذ هذه كلّها من صفات النّقص و زايدة على الذّات و من العوارض الّتي يجوز انفكاكها عن المعروض فيجوز أن يكون القاهر في وقت ما لوقوع تدبيره على وفق مطلوبه مقهورا في وقت آخر لعدم وقوع تدبيره على وفق مقصوده أو لوقوع تدبير المقهور على نحو ارادته و غلبته على تدبير القاهر كما هو المشاهد في تدبيرات السّلاطين و الملوك و ساير النّاس.
بل قاهريّته سبحانه عبارة عن ذلّ الخلايق لفاعلهم القديم و دخولهم في استكانة الامكان تحت غلبته و احتياجهم في اسر الحاجة إلى كمال قدرته بحيث لا يقدرون على الامتناع لما أراد من ذواتهم و صفاتهم و هيئاتهم و مقاديرهم و كمالاتهم و نفعهم و ضرّهم و خيرهم و شرّهم للزوم حاجتهم في الذّوات و الصّفات و جميع الحالات إليه و رفع أيدي الامكان و الافتقار لهم من جميع الجهات بين يديه.
و لعلّ لفظ القلّة في الحديث اشارة إلى صدور الامتناع عن بعضهم قليلا فيما أراد منهم من أفعالهم الاختيارية، و ليس ذلك لقهرهم و غلبتهم عليه، بل لأنه تركهم على حالهم و لم يجبرهم تحقيقا لمعنى التّكليف و الاختيار.
و قوله عليه السّلام لم يخرج منه طرفة عين أن يقول أه حال عن فاعله أو عن فاعل أراد، و ضمير منه راجع إليه، و أن يقول فاعل لم يخرج يعني لم يخرج منه سبحانه في سلطانه على الخلق و قهره عليهم طرفة عين قول كن فيكون، فهو إشارة إلى أنّه قاهر دائما و لا يصير مقهورا أبدا، و فيه تنبيه على أنّ الممكن في بقائه يحتاج إليه سبحانه كما يحتاج إليه في وجوده.
قال بهمنيار في محكّى كلامه: إنّ كلّ ممكن بالقياس إلى ذاته باطل و به تعالى حقّ يرشد إليه قوله: كلّ شي ء هالك إلّا وجهه فهو آنافآنا يحتاج إلى أن يقول له الفاعل الحقّ كن و يفيض عليه الوجود بحيث لو أمسك عنه هذا القول و الافاضة طرفة عين لعاد إلى البطلان الذاتي و الزّوال الأصلي كما أنّ ضوء الشمس لو زال عن سطح المستضي ء لعاد الى ظلمته الأصليّة.
(و القوّة على كلّ شي ء) و هو أيضا يعود إلى تمام القدرة، و ليس المراد به قوّة البطش المعروف من المخلوق الذي هو الأخذ الشديد عند ثوران الغضب و التناول عند الصّولة أو قوّة التّعلّق بالشي ء و أخذه على الشّدة، لأنّ القوّة بهذا المعنى من الصّفات الجسمانية كالقوّة الشّهوية و الغضبيّة و قابلة للزّيادة و النقصان، فلا يمكن اتّصاف الواجب القديم بذلك بالبديهة و العيان، لكونه من صفات الامكان كما مرّ تفصيلا و تحقيقا في شرح الخطبة الرّابعة و الستين.
|