68- و من كتاب له عليه السّلام إلى الحارث الهمدانى
وَ تَمَسَّكْ بِحَبْلِ الْقُرْآنِ وَ انْتَصِحْهُ وَ أَحِلَّ حَلَالَهُ وَ حَرِّمْ حَرَامَهُ- وَ صَدِّقْ بِمَا سَلَفَ مِنَ الْحَقِّ- وَ اعْتَبِرْ بِمَا مَضَى مِنَ الدُّنْيَا لِمَا بَقِيَ مِنْهَا- فَإِنَّ بَعْضَهَا يُشْبِهُ بَعْضاً- وَ آخِرَهَا لَاحِقٌ بِأَوَّلِهَا- وَ كُلُّهَا حَائِلٌ مُفَارِقٌ- وَ عَظِّمِ اسْمَ اللَّهِ أَنْ تَذْكُرَهُ إِلَّا عَلَى حَقٍّ- وَ أَكْثِرْ ذِكْرَ الْمَوْتِ وَ مَا بَعْدَ الْمَوْتِ- وَ لَا تَتَمَنَّ الْمَوْتَ إِلَّا بِشَرْطٍ وَثِيقٍ- وَ احْذَرْ كُلَّ عَمَلٍ يَرْضَاهُ صَاحِبُهُ لِنَفْسِهِ- وَ يُكْرَهُ لِعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ- وَ احْذَرْ كُلَّ عَمَلٍ يُعْمَلُ بِهِ فِي السِّرِّ- وَ يُسْتَحَى مِنْهُ فِي الْعَلَانِيَةِ وَ احْذَرْ كُلَّ عَمَلٍ إِذَا سُئِلَ عَنْهُ صَاحِبُهُ أَنْكَرَهُ أَوْ اعْتَذَرَ مِنْهُ- وَ لَا تَجْعَلْ عِرْضَكَ غَرَضاً لِنِبَالِ الْقَوْلِ- وَ لَا تُحَدِّثِ النَّاسَ بِكُلِّ مَا سَمِعْتَ بِهِ- فَكَفَى بِذَلِكَ كَذِباً- وَ لَا تَرُدَّ عَلَى النَّاسِ كُلَّ مَا حَدَّثُوكَ بِهِ- فَكَفَى بِذَلِكَ جَهْلًا- وَ اكْظِمِ الْغَيْظَ وَ احْلُمْ عِنْدَ الْغَضَبِ- وَ تَجَاوَزْ عِنْدَ الْمَقْدِرَةِ- وَ اصْفَحْ مَعَ الدَّوْلَةِ تَكُنْ لَكَ الْعَاقِبَةُ- وَ اسْتَصْلِحْ كُلَّ نِعْمَةٍ أَنْعَمَهَا اللَّهُ عَلَيْكَ- وَ لَا تُضَيِّعَنَّ نِعْمَةً مِنْ نِعَمِ اللَّهِ عِنْدَكَ- وَ لْيُرَ عَلَيْكَ أَثَرُ مَا أَنْعَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَيْكَ- وَ اعْلَمْ أَنَّ أَفْضَلَ الْمُؤْمِنِينَ- أَفْضَلُهُمْ تَقْدِمَةً مِنْ نَفْسِهِ وَ أَهْلِهِ وَ مَالِهِ- فَإِنَّكَ مَا تُقَدِّمْ مِنْ خَيْرٍ يَبْقَ لَكَ ذُخْرُهُ- وَ مَا تُؤَخِّرْهُ يَكُنْ لِغَيْرِكَ خَيْرُهُ- وَ احْذَرْ صَحَابَةَ مَنْ يَفِيلُ رَأْيُهُ- وَ يُنْكَرُ عَمَلُهُ فَإِنَّ الصَّاحِبَ مُعْتَبَرٌ بِصَاحِبِهِ- وَ اسْكُنِ الْأَمْصَارَ الْعِظَامَ فَإِنَّهَا جِمَاعُ الْمُسْلِمِينَ- وَ احْذَرْ مَنَازِلَ الْغَفْلَةِ وَ الْجَفَاءِ- وَ قِلَّةَ الْأَعْوَانِ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ- وَ اقْصُرْ رَأْيَكَ عَلَى مَا يَعْنِيكَ- وَ إِيَّاكَ وَ مَقَاعِدَ الْأَسْوَاقِ- فَإِنَّهَا مَحَاضِرُ الشَّيْطَانِ وَ مَعَارِيضُ الْفِتَنِ- وَ أَكْثِرْ أَنْ تَنْظُرَ إِلَى مَنْ فُضِّلْتَ عَلَيْهِ- فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ أَبْوَابِ الشُّكْرِ- وَ لَا تُسَافِرْ فِي يَوْمِ جُمُعَةٍ حَتَّى تَشْهَدَ الصَّلَاةَ- إِلَّا فَاصِلًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ فِي أَمْرٍ تُعْذَرُ بِهِ- وَ أَطِعِ اللَّهَ فِي جَمِيعِ أُمُورِكَ- فَإِنَّ طَاعَةَ اللَّهِ فَاضِلَةٌ عَلَى مَا سِوَاهَا- وَ خَادِعْ نَفْسَكَ فِي الْعِبَادَةِ وَ ارْفُقْ بِهَا وَ لَا تَقْهَرْهَا- وَ خُذْ عَفْوَهَا وَ نَشَاطَهَا- إِلَّا مَا كَانَ مَكْتُوباً عَلَيْكَ مِنَ الْفَرِيضَةِ- فَإِنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ قَضَائِهَا وَ تَعَاهُدِهَا عِنْدَ مَحَلِّهَا- وَ إِيَّاكَ أَنْ يَنْزِلَ بِكَ الْمَوْتُ- وَ أَنْتَ آبِقٌ مِنْ رَبِّكَ فِي طَلَبِ الدُّنْيَا- وَ إِيَّاكَ وَ مُصَاحَبَةَ الْفُسَّاقِ- فَإِنَّ الشَّرَّ بِالشَّرِّ مُلْحَقٌ- وَ وَقِّرِ اللَّهَ وَ أَحْبِبْ أَحِبَّاءَهُ- وَ احْذَرِ الْغَضَبَ فَإِنَّهُ جُنْدٌ عَظِيمٌ مِنْ جُنُودِ إِبْلِيسَ أقول: هذا الفصل من كتاب طويل إليه.
و قد أمره فيه بأوامره و زجره بزواجره مدارها على تعليم مكارم الأخلاق و محاسن الآداب.
أحدها: أن يتمسّك بحبل القرآن.
و لفظ الحبل مستعار كما سبق. و أراد لزوم العمل به.
الثاني: أن ينتصحه
أي يتّخذه ناصحا له بحيث يقبل أمره و شوره لأنّه يهدي إلى الحقّ و إلى صراط مستقيم.
الثالث: أن يحلّ حلاله و يحرّم حرامه.
و ذلك أن يعتقد ما فيه من الحلال و الحرام حلالا و حراما و يقف عند اعتقاده و يعمل بمقتضاه.
الرابع: أن يصدّق بما سلف من الحقّ
ممّا حكاه القرآن الكريم من أحوال القرون الماضية و أحوال الأنبياء مع أممهم ليصحّ منه الاعتبار.
الخامس: أن يعتبر ماضي الدنيا بباقيها
و يقيسه به فيجعل ما مضى أصلا و ما يبقى فرعا و يحذو القدر المشترك بينهما من العلّة و هو كونها مظنّة التغيّر و الزوال فيحكم في الفرع بحكم الأصل من وجوب الزوال، و قد نبّه على المشترك بقوله: فإنّ بعضها يشبه بعضا. و على ما يلزم ذلك في الفرع بقوله: و آخرها لاحق بأوّلها و كلّها حائل: أي زائل مفارق.
السادس: أن يعظّم اسم اللّه و يكبّره
أن يذكره حالفا إلّا على حقّ.
السابع: أن يكثر ذكر الموت و ما بعده
فإنّ في ذكرهما أعظم واعظ و أشدّ زاجر عن الدنيا.
الثامن: نهاه أن يتمنّى الموت إلّا بشرط وثيق
من نفسه يطمئنّ إليه في طاعة اللّه و ولايته فإنّ تمنّيه بدون ذلك سفه و حمق.
التاسع: أمره أن يحذر كلّ عمل يرضاه لنفسه و يكره للمسلمين
و هو في المعنى نهى عن الاستيثار عليهم بالمكاره و لنفسه بالخيرات و هو كقوله: ردّ للناس ما تريد لنفسك و اكره لهم ما تكرهه لها.
العاشر: أن يحذر ما يعمله في السرّ و يستحيى منه في العلانية.
و الإشارة إلى معاصى اللّه و مفارقة الدنايا من المباحات، و كذلك كلّ عمل من شأنه أن ينكره إذا سئل عنه و يعتذر منه.
الحادي عشر: أن يحفظ عرضه و نهاه أن يجعله غرضا.
و استعار لفظ الغرض و النبال لما يرمي به من القول: و قد سبق وجه الاستعارة.
الثاني عشر: أن يحدّث الناس بكلّ ما سمع
على وجه أن يقول: كان كذا و كذا دون أن يقول: سمعت فلانا يقول: كذا. فإنّ بينهما فرقا. و لذلك قال: و كفى بذلك كذبا. لأنّه جاز أن يكون ما سمع في نفس الأمر كذبا فيكون قد كذب في قوله: كان كذا. و قوله: سمعت كذا. لا يكون كذبا إلّا على وجه آخر.
الثالث عشر: أن لا يردّ كلّ ما يحدّث به الناس
و يقابله بالتكذيب و الإنكار لأنّه جاز أن يكون حقّا فيحصل من إنكاره جهل بحقّ، و قوله: فكفى. في الموضعين صغرى ضمير تقدير كبرى الأوّل: و كلّما كفى به كذبا فينبغي أن لا يتحدّث به.
و تقدير كبرى الثاني: و كلّما كفى بردّه جهلا وجب أن لا يردّ.
الرابع عشر: أمره بكظم الغيظ. و الحلم و التجاوز و الصفح
هي فضائل تحت ملكة الشجاعة و شرطها بوجود الغضب و القدرة و الدولة فيسمّى حلما و تجاوزا و صفحا و إلّا لم يصدق عليها الاسم.
و قوله: تكن لك العاقبة. أى العاقبة الحسنة من ذلك، و هي صغرى ضمير تقديرها: فإنّ فاعل هذه الخصال يكون له العاقبة منها، و تقدير الكبرى: و كلّما كانت له العاقبة الحسنة منها فيجب أن يفعلها.
الخامس عشر: أن يستصلح كلّ نعمة للّه تعالى
عليه بمداومة الشكر.
السادس عشر: أن لا يضيّع من نعمة اللّه تعالى نعمة:
أى بالقصور عن الشكر و الغفلة عنه.
السابع عشر: أن يظهر أثر نعمة اللّه تعالى عليه بحيث يراها الناس
فظهور أثرها عليه بإظهارها على نفسه و ذويه و صرف فاضلها إلى أهل الاستحقاق. و أعلمه بدليل وجوب ذلك من وجهين: أحدها: قوله: إنّ أفضل المؤمنين أفضلهم تقدمة: أى صدقة تقدّمها من نفسه بأقواله و أفعاله و أمواله، و من أهله كذلك. و هو جذب له أن يجعل نفسه من أفضل المؤمنين بالصدقة. الثاني: قوله: و إنّك. إلى قوله: خيره: أى ما تقدّمه و تؤخّره من المال و تخلّفه، و هو صغرى ضمير تقدير كبراه: و كلّما إذا قدّمته كان لك ذخرا و إذا أخّرته كان لغيرك خيره فواجب عليك تقديمه.
الثامن عشر: أن يحذر صحابة من يفيل رأيه
أى يضعف، و ينكر عمله لسوئه.
و علّل ذلك الحذر بقوله: فإنّ. إلى قوله: بصاحبه: أى فإنّك تقاس به لتنسب فعلك إلى فعله، و لأنّ الطبع مع الصحبة أطوع للفعل منه للقول فلو صحبه لشابه فعله فعله.
التاسع عشر: أن يسكن الأمصار العظام.
و الغرض الجمعيّة على دين اللّه كقوله صلّى اللّه عليه و آله: عليكم بالسواد الأعظم و لذلك علّل بكونها جماع المسلمين: أى مجمعهم. و أطلق اسم المصدر على المكان مجازا، و هو صغرى ضمير تقدير كبراه: و كلّما كان كذلك فينبغي أن يخصّ بالسكنى.
العشرون
أن يحذر منازل الغفلة و الجفاء لأهل طاعة اللّه.
الحادى و العشرون: أن يقصر رأيه على ما يعنيه
فإنّ فيه شغلا عمّا لا يعنيه فتجاوزه إليه سفه.
الثاني و العشرون: أن يحذر مقاعد الأسواق.
و أشار إلى وجه المفسدة بقوله: فإنّها. إلى قوله: الفتن. و معنى كونه محاضر الشيطان كونها مجمع الشهوات و محلّ الخصومات الّتي مبدئها الشيطان. و معاريض: جمع معرض و هو محلّ عروض الفتن. و الكلام صغرى ضمير تقدير كبراه: و كلّما كان كذلك فلا يجوز القعود فيه.
الثالث و العشرون: أن يكثر نظره إلى من هو دونه ممّن فضّل عليه في النعمة.
و علّل ذلك بقوله: فإنّ. إلى قوله: الشكر. و وجه كونه بابا للشكر أنّه يكون سببا للدخول إليه منه. و هو صغرى ضمير تقدير كبراه: و كلّما كان من أبواب الشكر فواجب ملازمته.
الرابع و العشرون: أن لا يسافر في يوم الجمعة إلّا أن يكون في جهاد أو عذر واضح.
و سرّه أن صلاة الجمعة عظيمة في الدين و هو محلّ التأهّب لها و العبادة.
فوضعه للسفر وضع للشي ء في غير موضعه.
الخامس و العشرون: أن يطيع اللّه في جميع اموره.
و رغّب فيها بضمير صغراه قوله: فإنّ. إلى قوله: سواها. و تقدير كبراه: و كلّما فضّل ما سواه فالأولى لزومه و ايثاره على ما سواه.
السادس و العشرون: أن يخادع نفسه في العبادة.
فإنّه لمّا كان شأن النفس اتّباع الهوى و موافقة الطبيعة فبالحرىّ أن تخادع عن مألوفها إلى غيره تارة بأن يذكر الوعد، و تارة الوعيد، و تارة بالاستشهاد بمن هو دونها ممّن شمّر في عبادة اللّه، و تارة باللوم لها على التفريط في جنب اللّه. فإذا سلك بها فينبغي أن يكون بالرفق من غير قهرها على العبادة لكون ذلك داعية الملال و الانقطاع كما أشار إليه سيّد المرسلين صلّى اللّه عليه و آله: إنّ هذا الدين متين فأوغل فيه برفق و لا تبغّض فيه إلى نفسك عبادة اللّه فإنّ المنبتّ لا أرضا قطع و لا ظهرا أبقى، بل تأخذ منها عفوها و نشاطها في العبادة إلّا الفريضة فإنّه لا يجوز المساهلة فيها.
السابع و العشرون: حذّره أن ينزل به الموت حال ما هو آبق من ربّه.
و استعار له الآبق باعتبار خروجه عن أمره و نهيه في طلب الدنيا.
الثامن و العشرون: أن يحذر صحبة الفسّاق
و نفّر عن ذلك بضمير صغراه قوله: فإنّ الشرّ بالشرّ ملحق: أى فإنّه يصير لك شرّا كشرّهم لأنّ القرين بالمقارن يقتدى. و تقدير كبراه: و كلّ ما صيّر لك كذلك فلا يجوز فعله.
التاسع و العشرون: أن يجمع بين توقير اللّه و تعظيمه و بين محبّة أحبّائه
و أوليائه، و هما أصلان متلازمان.
الثلاثون: أن يحذر الغضب.
و نفّر عنه بقوله: فإنّه. إلى آخره، و معنى كونه جندا له لأنّه من أعظم ما يدخل به على الإنسان فيملكه و يصير في تصريفه كالملك الداخل بالجند العظيم على المدينة، و هو صغرى ضمير تقدير كبراه: و كلّما كان كذلك فواجب أن يحذر منه. و باللّه التوفيق.
( . شرح نهج البلاغه ابن میثم، ج5، ص 219-225)
|